مقالات

الإنسانية.. وعي لا شعار بقلم: مستشار محمود السنكري

الإنسانية.. وعي لا شعار

بقلم: مستشار محمود السنكري

تبدو الإنسانية كلمة بسيطة لكنها تحمل عمقًا فلسفيًا يتجاوز اللغة إلى جوهر الوجود، فهي ليست مجرد مصطلح أخلاقي أو شعار حضاري، بل سؤال في صميم الكينونة: ما الذي يجعل الإنسان إنسانًا؟ أهو العقل الذي يميّزه أم الشعور الذي يربطه بالآخر؟

منذ بدايات الفكر الإنساني رافق مفهوم الإنسانية مسار الفلسفة ، ففي اليونان ارتبطت بالعقل الذي يرفع الإنسان فوق الطبيعة وعند كانط صارت مرتبطة بكرامة الإنسان كغاية في ذاته ، أما اليوم في زمن الأزمات الأخلاقية والتكنولوجية،

فقد أصبح السؤال أكثر إلحاحًا: هل ما زال الإنسان مركز الوجود أم مجرد رقم في معادلات السوق؟

في عالم تُقاس فيه القيم بالنفع المادي تُستحضر الإنسانية في الخطابات أكثر مما تُمارس ، تُرفع كشعار سياسي أو واجهة إعلامية حتى فقدت معناها الأصلي وغدت في بعض السياقات نقيضًا لما تشير إليه.

المشكلة ليست في غياب الخطاب الإنساني بل في تحوّله إلى أداة فارغة ، فالشعور الإنساني لا يُلقَّن بل يُعاش،إنه وعي بالآخر وإدراك بأن الألم مشترك وأن ما يصيب غيري يمس جزءًا من إنسانيتي.

يرى ليفيناس أن “الوجه الإنساني للآخر” هو المبدأ الأخلاقي الأعلى لأن رؤيته تضعك أمام مسؤوليتك الأخلاقية، وهكذا تصبح الإنسانية بنية في الوعي تجعل الذات منفتحة على الغير، وتحول العلاقة من “أنا وأنت” إلى “نحن”.

لكن عالم اليوم يسير في الاتجاه المعاكس: العزلة الرقمية، التفاوت الطبقي، النزاعات العرقية، كلها مظاهر لتآكل الحس الإنساني أمام منطق المنفعة والأنانية ، أصبحت التقنية تُسكت الضمير، والإحصاءات تُغني عن البصيرة.

إن استعادة البعد الإنساني ليست مثالية بل ضرورة لإعادة تعريف علاقتنا بالعالم ، فلا معنى للتقدم إن فقد الإنسان جوهره ولا قيمة لحضارة بلا رحمة وعدل وانفتاح.

الإنسانية ليست شعارًا يُرفع بل وعي يُمارس ، أن ترى في الآخر امتدادًا لك وأن تشعر بأن كل جرح في العالم يمس روحك أنت.

وحين تبلغ الإنسانية هذا العمق تصمت اللغة وتتكلم الأفعال.

فالإنسانية ليست ما نقوله عن الإنسان بل ما نفعله حين لا يرانا أحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى