تجار العصر الحالي… أشد قسوة من تجار الماضي

تجار العصر الحالي… أشد قسوة من تجار الماضي
✍️ بقلم الكاتب والسياسي سيد الأسيوطي
منذ فجر التاريخ كانت التجارة ركيزةً أساسية للحياة الاقتصادية والاجتماعية، تقوم على الثقة والصدق، حتى ارتبط وصف «التاجر الأمين» بالإيمان والبركة. كان التاجر في الماضي يحرص على سمعته قبل ماله، يربح دون أن يسحق إنسانية من يتعامل معه. أما اليوم فقد تبدلت الموازين، فأصبح بعض التجار لا يعرفون سوى لغة المال، ولا يسمعون سوى صدى أرباحهم، حتى لو كان الثمن جوع الفقراء وآلام البسطاء.
في الأزمنة السابقة كان الغش استثناءً يفضح صاحبه، أما الآن فقد صار عند بعضهم قاعدةً لإدارة التجارة. نرى احتكار السلع والتلاعب بالأسعار والتلاعب بتواريخ الصلاحية ونقص الأوزان وإعلانات «تخفيض» وهمية؛ ونسج أزمات مفتعلة بلا مبرر — كل ذلك يُمارَس بدم بارد. والأسوأ أن هذه الممارسات تشتد في أوقات الشدائد، حين يحتاج الناس إلى التراحم، فإذا بهم يواجهون قسوة لا تُطاق.
تتجلّى قسوة «تجار الأزمات» في صور عدة:
الاحتكار والتجويع: كما حدث في أزمة السكر عام 2016 أو أزمة الأرز والزيت في بعض الأسواق خلال 2022، عندما لجأ بعض التجار إلى إخفاء السلع الأساسية لتعطيش السوق وبيعها لاحقًا بأضعاف ثمنها.
الغش في الغذاء والدواء: مثل القضايا الشهيرة التي ضبطت فيها مصانع تُنتج أدوية مغشوشة أو لحومًا غير صالحة، وهو ما يهدد صحة الملايين.
استغلال الأزمات: كما حدث أثناء جائحة كورونا عام 2020، حين ارتفعت أسعار الكمامات والمطهرات خمسة أضعاف في أيام قليلة.
المتاجرة بأحلام الشباب والبسطاء: من خلال بيع أوهام عقارية وفرص عمل وهمية، أو عبر الإعلانات الوهمية التي تتاجر بآلام الناس وطموحاتهم، وهو ما لا يقل قسوة عن سرقة المال.
ومع الجهود المتميزة التي بذلتها الدولة المصرية ومؤسساتها المعنية للإصلاح وحل بعض المشكلات، ومع تحسّن بعض المؤشرات الاقتصادية، لم يعكس بعض التجار عديمو الضمير هذه الإيجابيات على حياة الناس. بل لجأوا إلى أساليب ملتوية مثل «التخفيض المقنّع»، أو رفع الأسعار استباقيًا بمجرد شائعة، بما يزيد حالة الفقر والإحباط لدى المواطنين.
هذا الانفلات، مع غياب الضمير وبعض التصريحات الرسمية الضعيفة، يهدم ثقة الشعب في العدالة ويقوّض أمل الإصلاح. لم تعد القضية مجرد أسعار؛ إنها قضية أمن قومي تمس قوت الشعب وكرامته.
ومن هنا تأتي المسؤولية الوطنية: لا يجوز ترك مصير المواطنين لضمائر التجار الجشعين. فكما أثبتت القوات المسلحة المصرية أنها حامية الوطن والضامن الأول والأخير لاستقراره، فإن تدخلها عند الحاجة يظل صمام أمان ضد الاحتكار وجشع تجار الأزمات. ومع ذلك، لا يكفي الردع المؤقت؛ المطلوب تغيير جذري في مراكز القرار ومحاسبة المقصرين.
خطوات عملية مطلوبة:
تفعيل الرقابة على الأسواق بشكل يومي ومفاجئ، وعدم الاكتفاء بالحملات الموسمية.
تسريع التحقيقات في قضايا الغش والاحتكار، والإعلان بشفافية عن نتائجها أمام الرأي العام.
تطبيق عقوبات رادعة تصل إلى مصادرة الأموال غير المشروعة وغلق المحال والمصانع المتورطة.
دعم الرقابة الشعبية عبر تمكين المجتمع المدني والإعلام في رصد المخالفات والإبلاغ عنها.
تعزيز دور التكنولوجيا من خلال منصات حكومية للإبلاغ المباشر عن الغش أو الاحتكار، وربطها بأجهزة الرقابة.
إشراك المواطنين بشكل رسمي: من خلال القرارات الأخيرة للنيابة العامة التي تسمح بتوثيق وتصوير المخالفات ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما أصبح وسيلة سريعة وفعالة لضبط الأسواق. وهنا يبرز الدور المميز لوزارة الداخلية، التي تتابع ما يقدمه المواطنون عبر صفحتها الرسمية، وتتحرك بسرعة فائقة لمعالجة البلاغات، وهو جهد يستحق الإشادة والتقدير والاحترام.
إن مواجهة هؤلاء التجار مسؤولية مجتمع بأكمله. السوق يحتاج قوانين صارمة وتطبيقًا فعالًا لها، ويحتاج أيضًا قيمًا أصيلة تُعيد للتاجر هيبته كرمز للثقة والرحمة. إن أقسى أشكال الظلم ليست في الحروب وحدها، بل في سرقة لقمة العيش من فم الجائع وبيع الأمل بثمن باهظ. صلاح هذا الوطن يبدأ من استقامة السوق وعودَة الضمير الإنساني والوطني لكل من يملك تجارة أو صناعة. وعلى أهل المسؤولية أن يعلموا أنهم سيحاسبون أمام الله والرأي العام تاريخيًا إذا أجادوا أو أخفقوا أو أهملوا في حقوق المواطنين. وإن كان المسؤول غير قادر على مواجهة ألاعيب تجار الأزمات، فالمغادرة شرف في بعض الأوقات قبل أن تكون خيارًا.
حفظ الله الوطن… وتحيا مصر بوحدتها دائمًا وأبدًا رغم أنف المفسدين والحاقدين والمتربصين.