مائدة الخذلان المر

مائدة الخذلان المر
شبكة النايل الإخبارية محمد الجامعي
دار حوار بين أرواح الحكمة الأربع في قاعة من رخام الزمن المنسي، حيث تتراقص الظلال على جدران منقوشة بآلام البشرية، اجتمعت أربع أرواح حول مائدة من خشب الأبنوس. الشموع تذوب كالأحلام، والريح تعوي خارج النوافذ كأنها تحمل شكاوى الأجيال.
فتح نيتشه الحوار – بصوت الإرادة المكسورة قائلا ،
“آه، يا رفاق الفكر! الخذلان ليس مجرد كلمة تُنطق، بل خنجر يُسن على أحجار الثقة المتراكمة. نحن لا نُخذل من الأعداء، فهؤلاء متوقعون كالعواصف في الشتاء. نُخذل من أولئك الذين زرعنا في قلوبهم بذور الأمل، فنبتت شوكاً يجرح أيدينا حين نقطف الثمار.”
يحدق في اللهب وكأنه يقرأ في صفحات مستقبل محترق
“من يريد أن يحيا حقاً، عليه أن يموت أولاً عن انتظار الخلاص من الآخرين. فالإنسان الأعلى هو من يصير إله نفسه، لا من ينتظر المعجزات من الآلهة.”
رد عليه دوستويفسكي –
و صوته يرتجف كالوتر المكسور، وعيناه تحملان حزن الأمهات الثكالى
“وأنا أقول إن الخذلان هو ضريبة العشق الباهظ. لا يُخذل إلا من عشق حتى الجنون، حتى فقدان الذات في الآخر. نحن الذين نحب البشر والله والمثل العليا، نحن من نشرب كأس الخيبة حتى الثمالة.”
وضع يده على قلبه وكأنه يحاول أن يكتم نزيفاً لقد خذلني البشر حين تركوا الأبرياء يتألمون، . ومع ذلك ما زلت أؤمن بشيء ما في الأعماق، لا أعرف اسمه بعد، لكنني أشعر بدفئه يتسلل إلى روحي المثقوبة.”
بدوره قال شوبنهاور – فيلسوف اليأس المدرك بابتسامة ساخرة تعبر وجهه كالبرق الخافت
“تؤمن؟ يا صديقي دوستويفسكي، الإيمان ترف لا نملكه نحن الذين كشفنا عن حقيقة الوجود المرة. الخذلان ليس استثناءً، بل هو القانون الأزلي للطبيعة البشرية. كل واحد منا يدور في فلك مصلحته، وما نسميه إخلاصاً ووفاءً هو مجرد تأجيل لخيانة محتومة كالموت.”
يتأمل الدخان المتصاعد من الشموع
“الحياة إرادة عمياء، وكل علاقة إنسانية مجرد صدام بين إرادات متضاربة. من يتوقع الخير المطلق من الآخرين يشبه من يتوقع الماء من الصحراء.”
لم يبقى سقراط – حكيم الجهل المقدس صامتا
يتكئ على عصاه، نظرته تخترق الأرواح بلطف الحكيم المتألم
“يا أصحابي، الخذلان مدرسة لا جامعة لها. من لا يُخذل، يبقى طفلاً في عالم الكبار. كل خذلان يكشف لنا طبقة جديدة من الحقيقة عن أنفسنا وعن العالم.”
صمت قليلا ثم تابع بصوت أكثر نعومة
“الذي يخذلك يمنحك هدية لا يدري قيمتها: يحررك من الوهم، يعلمك أن تعتمد على قوتك الداخلية، يظهر لك من أنت حقاً وليس من تظن أنك عليه. الخذلان مرآة قاسية، لكنها صادقة.”
بدأ دوستويفسكي (يهمس كمن يعترف بخطيئة): “إذاً… هل نُخلق إلا لنعرف؟ وهل نُحب إلا لنتألم؟ وهل نُخذل إلا لنتطهر من أوهامنا؟”
(هز نيتشه رأسه): “نحن وحيدون، منذ اللحظة الأولى حتى الأخيرة. كل من ينتظر الخلاص من غيره محكوم عليه بالخيبة. العظمة في أن تقف وحيداً وتواجه العالم بقوتك الخاصة.”
شوبنهاور: “الوحدة هي الحالة الطبيعية للإنسان الواعي. الألم يأتي من محاولة كسر هذه الوحدة الأبدية.”
سقراط: “لكن ألا ترون أن الخذلان هو أيضاً طريق إلى الحكمة؟ من خذلك، علمك درساً لا يُقدر بثمن عن طبيعة النفس البشرية.”
يصمت الجميع. الشموع تذوب أكثر، و الدخان يتصاعد حاملاً معه أنفاس الحكماء وتنهداتهم.
الراوي المجهول – قصة شخصية
وأنا، الذي استمتعت بقراءة هذا الحوار من زاوية النسيان، شعرت وكأن الفلاسفة الأربعة يتحدثون عن روحي المجروحة. حين عدت من المهجر بعد خمسة عشر عاماً من الغياب،
كنت اظن اننا ابناء الوطن الواحد و اننا شركاء عشق
لهذه اللعبة و حب الوطن .
لم اكن أتوقع ان هناك لا يزال من يسعى الى التفرقة ليفرق بين ابناء الوطن الواحد و ابناء الجلدة الواحدة
عدت أحمل في قلبي أحلاماً كبيرة وآمالاً عريضة. ظننت أن المعاناة انتهت مع نهاية عهد الهرم الجامعي القديم و بداية العهد الجديد، لكنني اكتشفت أن الأمراض أمراض مزمنة، متجذرة في أعماق الروح الجماعية و لا تزال تسكن بين شقوق جدران المبنى .
لقد وجدت عالماً لا يزال يسكنه ملائكة مقيدة بألف شيطان، كلهم يحلمون بفاكهة الجنة المحرمة.
وجدت أصدقاء قدماء، منهم من عاشوا معي لحظات المجد، وآخرون يحاولون محوه من صفحات التاريخ.
كل إنجازاتي يعتبرونها تفاهة وأقل قيمة، و تبدوا مجرد لحظات عابرة، و لعب و لهو لا أكثر.
بدأت أرى العالم كما لو أنه سراب يتراقص في صحراء الوهم، وأنا الظمآن الذي يلهث خلف الماء اغترف غرفة بيدي اشربه كي اطفئ ظمئي لم اجده .
وتجرعت جرعة كبيرة من مرارة الإنكار و الخذلان.
لم تكن لي سلطة للدفاع عن قضيتي. كانت عواصف الوحدة تلعب بي و رياح العداء تهب علي من كل الجهات كالأعاصير المدمرة، تقذف بي إلى شواطئ مهجورة تحرقني شمسها الملتهبة فوق رمالها . أحياناً كنت أتصور أن حلمي انتهى، ذلك الحلم الذي طالما اعتقدت أنني سأصحو يوماً على تحقيقه.
فكرت في أن أرمي بجميع أوراقي في مهب الريح لتذهب حيثما تشاء، لأنني لا أستطيع تغيير اتجاه الريح. لكن في النهاية، اخترت أن أكيف أشرعتي وأستمر في الإبحار نحو غايتي.
اكتشفت أن هناك من تسلل من تحت غبار المعركة ليسرق نجاح الآخرين وأمجاد من سبقهم بالإيمان .
وجدت نفسي كغريب عابر طريق، أو كمن نزل بمظلة على هذه الأرض. لم أعد أشعر بأنني مواطن مغربي، ولا حتى جزء من المجتمع الذي هو جزء مني – انها مفارقة مؤلمة –
كانت رحلة الصمود الصامتة و الطويلة، غضضت فيها بصري حين كسرتني الظروف وأظلمت الدنيا في وجهي. رغم ذلك، احتفظت بابتسامتي المتكلفة في وجه من خذلوني وتركوني وحيداً في العراء.
تنهدت بهدوء حين كان كل شيء حولي يدعوني للصراخ، يستفزني للانهيار، يغريني بالاستسلام.
لا تخدعكم ابتسامتي انها قناع و ليست حقيقة ، فحينما ألقاكم، ابتسم لكن أحترق من الداخل. أموت ببطء حينما أنظر حولي فأرى الجميع ينظر إلي و يبتسم لابتسامتي لكن كل واحد يخفي خلف عينيه قصة عني لم يجرأ على حكايتها.
أدركت في الأخير أنني قضيت عمرا طويلا أديت فيه أدواري ببراعة حتى النهاية، لكن عندما اسدل الست