مقالات

صناعة الملاعب الكبرى:

صناعة الملاعب الكبرى:

بين التنمية الرياضية والتموقع العالمي( المغرب نموذجاً.)

 

شبكة النايل الإخبارية/المغرب

المصطفى الهيبة إطار بقطاع الرياضة.

 

أضحت الرياضة في القرن الحادي والعشرين أكثر من مجرد ممارسة بدنية أو وسيلة ترفيهية، إذ تحولت إلى صناعة متكاملة ذات أبعاد اقتصادية، اجتماعية، وثقافية، كما أصبحت ورقة سياسية ودبلوماسية تلجأ إليها الدول لتعزيز حضورها الدولي عبر ما يُعرف بـ”القوة الناعمة”. ومن بين أبرز تجليات هذه الاستراتيجية يبرز بناء الملاعب الكبرى، التي لم تعد مجرد فضاءات لاحتضان المباريات، بل مشاريع مهيكلة تحمل أبعاداً متعددة.

المغرب يُعدّ نموذجاً بارزاً في هذا السياق، حيث أولى منذ بداية الألفية الثالثة اهتماماً خاصاً بتطوير بنيته التحتية الرياضية من خلال تشييد ملاعب حديثة وتجديد أخرى قائمة، انسجاماً مع رؤية استراتيجية تهدف من جهة إلى تطوير الرياضة الوطنية وتعزيز ممارسة كرة القدم خاصة، ومن جهة أخرى إلى توظيف هذه البنية في خدمة الدبلوماسية الرياضية والتموقع العالمي.

من هنا يطرح السؤال: هل تُشكل صناعة الملاعب الكبرى في المغرب وسيلة لتحقيق التنمية الرياضية الداخلية، أم أداة للتموقع الاستراتيجي على الصعيد الدولي؟

أولاً: الملاعب الكبرى كرافعة للتنمية: الرياضية في المغرب

1.تحديث البنية التحتية الرياضية:

أدرك المغرب منذ التسعينات أن تطوير الرياضة لا يمكن أن يتم دون بنية تحتية قوية. فتم إطلاق مشاريع كبرى لتشييد ملاعب بمعايير دولية مثل:

ملعب مراكش الكبير (افتتح سنة 2011 بطاقة استيعابية تفوق 45 ألف متفرج).

ملعب طنجة الكبير (2011، 65 ألف مقعد).

ملعب أكادير (2013، 45 ألف مقعد).

تجديد مركب محمد الخامس بالدار البيضاء (2016–2019) ليصبح قادراً على استضافة تظاهرات عالمية.

هذه الملاعب سمحت للأندية الوطنية والمنتخب المغربي بخوض مبارياتهم في فضاءات حديثة، مما انعكس على مستوى الأداء الفني ورفع من صورة الدوري المغربي.

2.تشجيع الممارسة الرياضية وخلق دينامية محلية:

الملاعب الكبرى لا تخدم النخبة الرياضية فقط، بل تُسهم في:

تشجيع الشباب على الانخراط في الممارسة الرياضية بفضل تحسن صورة كرة القدم الوطنية.

خلق فضاءات للتدريب والأنشطة الجانبية (الأكاديميات، المدارس الكروية).

تحريك الاقتصاد المحلي في المدن المستضيفة عبر الفنادق، النقل، التجارة، والمطاعم، ما يعزز التنمية المجالية.

3.تعزيز مكانة الرياضة في السياسات العمومية

وزارة الشباب والرياضة المغربية اعتمدت استراتيجية ترتكز على اعتبار الملاعب الكبرى جزءاً من التنمية الشاملة، حيث تُدرج هذه المشاريع ضمن مخططات الاستثمار في البنية التحتية إلى جانب الطرق، الموانئ، والمطارات. وهو ما يعكس قناعة الدولة بأهمية الرياضة كقطاع اقتصادي واجتماعي، لا مجرد نشاط ترفيهي.

ثانياً: الملاعب الكبرى كأداة للتموقع العالمي

1.المغرب والقوة الناعمة الرياضية:

من خلال بناء ملاعب حديثة، أصبح المغرب قادراً على استضافة كبريات التظاهرات الرياضية، ما ساهم في تعزيز صورته كبلد مستقر، منفتح وقادر على التنظيم الاحترافي. هذا التوجه جعل من الرياضة ورقة دبلوماسية بامتياز، تُستعمل لتعزيز علاقات المغرب مع إفريقيا وأوروبا.

2.استضافة البطولات الدولية:

من أبرز الأمثلة على ذلك:

تنظيم كأس العالم للأندية (2013، 2014، 2022).

تنظيم كأس إفريقيا للأمم 2025.

احتضان مباريات لمنتخبات إفريقية لا تتوفر على ملاعب مؤهلة.

الانضمام إلى الملف المشترك مع إسبانيا والبرتغال لاستضافة كأس العالم 2030.

هذه المحطات لم تكن لتتحقق لولا توفر المغرب على ملاعب بمعايير الفيفا، وهو ما جعله منافساً قوياً لدول أخرى في القارة.

3.البعد الاقتصادي والاستثماري:

الملاعب الكبرى تُعد رافعة لجذب الاستثمارات، إذ تُواكبها مشاريع في قطاعي السياحة والخدمات. فكل حدث رياضي دولي ينظم بالمغرب يساهم في إنعاش الفنادق، النقل الجوي والبري، المطاعم، والتجارة. ومن هنا فإن الاستثمار في الملاعب ليس معزولاً، بل جزء من رؤية اقتصادية متكاملة.

4.الدبلوماسية الإفريقية للمغرب عبر الرياضة:

اعتمد المغرب الملاعب كأداة لتعزيز حضوره في إفريقيا، حيث فتح ملاعبه لاحتضان مباريات لمنتخبات من دول تعاني من ضعف البنية التحتية (مثل مالي، غينيا، سيراليون). هذه الخطوة جعلت المغرب شريكاً موثوقاً وفاعلاً محورياً في تطوير كرة القدم الإفريقية، وهو ما ينسجم مع توجهه السياسي نحو الانفتاح على العمق الإفريقي.

ثالثاً: التحديات والإكراهات:

رغم الإيجابيات المتعددة، تواجه التجربة المغربية بعض التحديات:

1.الكلفة المالية: بناء وصيانة الملاعب الكبرى يتطلب ميزانيات ضخمة قد تُشكل عبئاً على المالية العمومية إذا لم تقترن باستراتيجية استدامة.

2.ضعف الممارسة الشعبية: الملاعب تخدم بالأساس كرة القدم الاحترافية، بينما تبقى الممارسة الشعبية والرياضات الأخرى بحاجة إلى دعم أكبر.

3.التوزيع الجغرافي: تتركز الملاعب الكبرى في بعض المدن (الدار البيضاء، الرباط، مراكش، طنجة، أكادير)، مما يطرح مسألة العدالة المجالية.

4.الاستمرارية والاستغلال: الملاعب لا ينبغي أن تُستغل فقط خلال المباريات الكبرى، بل يلزم برمجة أنشطة ثقافية، ترفيهية ورياضية متنوعة لضمان مردوديتها.

الخاتمة:

تشكل صناعة الملاعب الكبرى في المغرب تجربة رائدة تعكس رؤية استراتيجية مزدوجة:

داخلياً: جعل الرياضة رافعة للتنمية المجالية والاقتصادية، وتحسين مستوى الممارسة الرياضية الوطنية.

خارجياً: توظيف الملاعب كأداة للقوة الناعمة والتموقع العالمي عبر استضافة التظاهرات الكبرى وتعزيز العلاقات مع إفريقيا وأوروبا.

غير أن نجاح هذه السياسة يظل رهيناً بمدى التوفيق بين متطلبات الاستثمار في هذه البنية التحتية، وضمان استدامتها عبر إدماجها في سياسات اجتماعية شاملة تضمن استفادة المواطن، لا أن تتحول إلى مجرد رموز معمارية موجهة للنخبة أو المناسبات.

إن تجربة المغرب تبرهن أن الملاعب الكبرى يمكن أن تكون جسراً بين التنمية الداخلية والتموقع الدولي، شريطة أن تُستغل بذكاء واستمرارية في خدمة الرياضة والمج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى