الرئيسيةمقالاتبين قداسة متوهمة ولعنة مختلقة..حين يصادر الوهم عدل البصيرة
مقالات

بين قداسة متوهمة ولعنة مختلقة..حين يصادر الوهم عدل البصيرة

بين قداسة متوهمة ولعنة مختلقة..حين يصادر الوهم عدل البصيرة

بقلم: مستشار محمود السنكري

في هذا العالم لا يسير البشر على خط مستقيم بين نور مطلق وظلام مطبق بل يتقاطعون في مساحات رمادية تختلط فيها النوايا وتتصارع داخل النفس الواحدة دوافع الخير والشر ، وأخطر ما يبتلى به الإنسان ليس الذنب بل وهم الكمال وليس الفساد بل ادعاء الطهارة.

خذها قاعدة لا تقبل الجدل: أفضل الناس ليسوا ملائكة وأسوأ الناس ليسوا شياطين. فالكمال ليس بشريا والطهر المطلق ليس من طبيعة الإنسان ، وكل إنسان مهما علت قامته الأخلاقية يحمل في داخله أخطاء لم ترو وزلات لم تعلن وذنوبا قد لا يراها الناس لكنها لا تغيب عن ميزان الحق ، وفي المقابل كل إنسان وسم بالشر مهما بلغ أذاه لا يخلو من لحظة خير أو بادرة رحمة أو نية صادقة لم تجد طريقها الصحيح.

إن المشكلة الحقيقية لا تكمن في الخطأ ذاته بل في طريقة نظرنا إلى الخطأ وصاحبه ، حين نفترض الكمال في الصالحين نعطل عقولنا ونغلق أعيننا عن رؤية زلاتهم فنصنع منهم أصناما فكرية ونسلم لهم زمام عقولنا بلا مساءلة فنقع في عبودية التقديس بدل شرف الاتباع الواعي ، وهنا يولد أخطر أنواع التبعية: التبعية العمياء حيث يبرر الخطأ لأنه صدر من مقدس وتغتال الحقيقة بدعوى حسن النية.

وفي الجهة المقابلة حين نفترض الشر المطلق في العاصين نرتكب جريمة أخرى لا تقل بشاعة: نصادر إنسانيتهم ونلغي حسناتهم ونعمي أبصارنا عن أي نور قد يخرج من عتمتهم فنقع أسرى كره أعمى لا يرى إلا ما يوافق حقده ولا يسمع إلا صدى غضبه ، فالكراهية حين تحكم العقل تقتل العدل وتجعل الظلم فضيلة متوهمة.

لقد جاء الميزان الإلهي حاسما لا لبس فيه:

{ كل ابن آدم خطاء }

فلا استثناء ولا حصانة ولا قداسة بشرية فوق الخطأ.

ثم جاء القيد الأخلاقي الأعظم:

{ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا }

فالعدل ليس مشروطا بالمحبة ولا يسقط بالخصومة ولا يلغى بالكره.

إن العدل الحقيقي لا يعني تبرئة الصالح من أخطائه ولا تبرير العاصي في معاصيه بل يعني رؤية الإنسان كما هو كائنا ناقصا متقلبا يحمل الخير والشر معا ويحاسب بميزان دقيق لا يعرف المجاملة ولا التشفي.

الفلسفة العميقة للحياة تقول إن الإنسان ليس ما يظهره للناس ولا ما يلصق به من أوصاف بل هو مجموع صراعاته الداخلية ومحاولاته المتكررة للنجاة من نفسه ، ومن الظلم الفكري أن نجزئ الإنسان فنأخذ منه صورة واحدة ونحاكم بها كله.

إن أخطر أشكال الجهل ليس الجهل بالمعلومة بل الجهل بالميزان وأخطر أشكال الانحراف ليس ارتكاب الخطأ بل تقديس الخطأ إذا صدر من محبوب وتجريم الصواب إذا صدر من مكروه.

فإن أردت أن تكون حرا حقا فلا تسلم عقلك لمحبة تعميه ولا تتركه فريسة لكراهية تفسده ، كن عادلا فالعدل وحده هو الشجاعة الأعلى والبصيرة الأصدق والطريق الوحيد الذي لا يخزي صاحبه.

هكذا فقط ننجو من وهم الملائكة ومن لعنة الشياطين ونقف في المساحة الأصعب والأشرف: مساحة الإنسان كما هو لا كما نريد أن نراه.بين قداسة متوهمة ولعنة مختلقة..حين يصادر الوهم عدل البصيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *