الرئيسيةمقالاتحدة الحد بين الجد والهزل..بقلم: مستشار محمود السنكري
مقالات

حدة الحد بين الجد والهزل..بقلم: مستشار محمود السنكري

حدة الحد بين الجد والهزل..بقلم: مستشار محمود السنكري

حدة الحد بين الجد والهزل

بقلم: مستشار محمود السنكري

في حياة الإنسان حد دقيق يكاد يُرى بالحدس أكثر مما يُرى بالعين، يفصل بين الجد والهزل، بين ما يُقال بقلب ممتلئ وما يُقال بلسان خفيف بين لحظة تُبنى فيها المعاني ولحظة تُهدم فيها الكلمات دون قصد ،

هذا الحد ليس خطًا مرسومًا على الأرض، بل هو ارتجاج داخلي وشعور خفي يحكمه ميزان الحكمة والبصيرة لا ميزان المنطق وحده.

فالجد هو المنطقة التي يشتد فيها الضوء حتى يصعب التلاعب به ، فيه تُختبر نوايا الإنسان ويُقاس صدقه وتُوزن أثقال روحه ، الجد موقف لا يحتمل الزينة اللفظية ولا الرقص حول المعنى؛

إنه الكلام الذي يُقال حين تكون الحقيقة أوسع منا والواجب أكبر من رغباتنا والمسؤولية أثقل من الهروب.

أما الهزل فهو المساحة التي ينفلت فيها الوجدان من قبضته الصارمة مساحة الاستراحة الإنسانية التي تتيح للروح أن تتنفس في عالم مكدود ، الهزل ليس استهتارًا، بل فن في تحويل اللحظة الثقيلة إلى لحظة يمكن حملها ،

إنه التخفيف الذي ينقذ النفس من تطرف الجد ويحمي الإنسان من أن يتحول إلى كتلة صلبة لا تعرف اللين.

لكن الخطر يكمن حين تتداخل المساحتان؛ حين يتسرب الهزل إلى مقام الجد فيسقط الوقار أو يتسلل الجد إلى لحظة الهزل فتخبو البهجة ويتحول الضحك إلى عبء ،

عند هذا الحد يتلعثم الكلام ويخسر المعنى براءته ويغدو الموقف ساحة ارتباك لا يعرف المتحدث فيها أين يقف ولا يعرف المستمع أي نبرة يستقبل.

إن حدة الحد بين الجد والهزل ليست في الكلمات وحدها، بل في توقيتها ، فالعبارة ذاتها قد تصبح حكمة تُعلّم أو مزحة تُضحك أو إساءة تُوجع، وكل ذلك يتحدد باللحظة التي تُقال فيها وبالقلب الذي يسمعها ،

ومن هنا نفهم أن البلاغة ليست في حسن الصياغة فقط، بل في حكمة الموضع؛ فهو الذي يجعل الكلمة سلمًا أو سكينًا، نورًا أو غبارًا.

ولعل أجمل ما في هذا الحد أنه يربينا.. يجعلنا أكثر وعيًا بأن الكلمة كائن حساس وأن الضحكة مسؤولية وأن الجدية ليست دائمًا قوة كما أن الهزل ليس دائمًا ضعفًا ،

فالإنسان المتوازن هو من يعرف كيف يضحك دون أن يسقط هيبته وكيف يكون جادًا دون أن يخنق الحياة حوله.

وبين الجد والهزل يعيش الإنسان معلقًا على خيط دقيق يشبه خيط الضوء بين فجر وليد وليل آفل. ومع كل خطوة على هذا الخيط يكتشف أن الحكمة الحقيقية ليست في اختيار أحد الطرفين، بل في معرفة متى يكون كل منهما ضرورة.

هكذا يصبح الحد بين الجد والهزل فنًا…

فن العيش بوعي والقول بمسؤولية والضحك بأدب والجد بروح لا تنسى أنها بشر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *