الأحزاب العائلية: من الوطنية إلى القطاع الخاص

الأحزاب العائلية: من الوطنية إلى القطاع الخاص
بقلم سيد الأسيوطي
منذ بزوغ فجر الحركة الوطنية في مصر، ارتبطت الحياة الحزبية ارتباطًا وثيقًا بنضال الشعب ضد الاستعمار، وبحلم الاستقلال والسيادة الوطنية. كانت الأحزاب صوت الجماهير ودرع الأمة، تقود المظاهرات، وتفاوض القوى الاستعمارية، وتطرح البرامج الوطنية التي التفّت حولها الملايين. إلا أن هذا الدور التاريخي العريق بدأ يتراجع مع مرور العقود، حتى تحولت بعض الأحزاب اليوم إلى كيانات عائلية مغلقة، أشبه بشركات خاصة، تُدار لمصالح شخصية محدودة، وتُورَّث القيادة فيها كما تُورَّث العقارات والممتلكات. وزاد الأمر تعقيدًا مع ظهور ما يمكن تسميته بـ”أحزاب الشللية”، التي لا تقوم على مشروع وطني بقدر ما تقوم على تجمعات ضيقة من أصحاب المصالح، هدفها الأساسي الوجاهة واللقاء بالمسؤولين.
لقد شهدت الحياة الحزبية في مصر تحولات عميقة. غير أن بعض الأحزاب العائلية والشللية ظلت حبيسة النفوذ الشخصي والمصالح الضيقة، وهو ما أفقدها ثقة الجماهير وأبعدها عن روح السياسة الحقيقية التي تقوم على البرامج، والكوادر، والتنظيم. هذه الظاهرة ليست حكرًا على مصر وحدها، بل عرفتها مجتمعات عديدة، غير أن كثيرًا منها استطاع تجاوزها.
ففي الهند مثلًا، تراجعت الأحزاب ذات الطابع العائلي كحزب المؤتمر، الذي ظل مهيمنًا لعقود، لصالح أحزاب مؤسسية قوية تعتمد على الكفاءة والقاعدة الشعبية الواسعة مثل حزب بهاراتيا جاناتا، الذي حصل في انتخابات 2019 على أكثر من 300 مقعد بالبرلمان وفق البيانات الرسمية. وفي تركيا، انتهى دور بعض الأحزاب العائلية الهشة مع صعود حزب العدالة والتنمية، الذي بنى وجوده على التنظيم والبرنامج السياسي لا على الوراثة، وهو ما تؤكده تقارير المؤسسات الدولية المعنية بالديمقراطية. أما في أمريكا اللاتينية، فقد شهدت تجارب مماثلة، إذ انحسرت أحزاب العائلات لصالح حركات وطنية أوسع وأكثر جماهيرية مثل حزب العمال في البرازيل، الذي قاد البلاد لفترتين رئاسيتين متتاليتين. وفي أوروبا كذلك، تجاوزت الحياة السياسية ظاهرة الأحزاب العائلية؛ ففرنسا مثلًا صعدت فيها أحزاب مؤسسية قوية مثل الجمهورية إلى الأمام، بينما في إيطاليا تراجع نفوذ الشخصيات العائلية التقليدية أمام الحركات الحديثة ذات الطابع المؤسسي والجماهيري.
هذه المقارنات تضعنا أمام حقيقة واضحة، وهي أن أي حزب يظل مرتهنًا للعائلة أو الأفراد سرعان ما يفقد بريقه ويتراجع أمام الأحزاب المؤسسية ذات الطابع الجماهيري. إن مستقبل العمل السياسي لا يمكن أن يقوم على الشخصنة أو الوراثة، بل على التنظيم والكفاءة والقدرة على تقديم حلول حقيقية لمشكلات الوطن. وتشير تقارير دولية معنية بقياس مؤشرات الديمقراطية إلى أن الأحزاب التي تعتمد على الهياكل المؤسسية وبرامج العمل الجماهيرية تتفوق في قدرتها على البقاء والتأثير، بينما تتلاشى الكيانات القائمة على النفوذ الشخصي أو الوراثي خلال فترات قصيرة.
ولعل أوضح دليل على أن مصر ما زالت قادرة على إفراز أحزاب حقيقية هو ميلاد حزب الجبهة الوطنية، الذي تمت الموافقة على تأسيسه مؤخرًا. هذا الحزب لم يأتِ صدفة، ولم يولد ضعيفًا كغيره من الكيانات الورقية، بل جاء قويًا ومنظمًا منذ لحظته الأولى، لأنه ضم في عضويته عددًا كبيرًا من الشخصيات العامة؛ من وزراء ومحافظين، وفنانين ورياضيين، ونقابيين وكتاب وإعلاميين وصحفيين. وهكذا عكس صورة المجتمع المصري بكل تنوعاته وقوته.
لقد ظهر حزب الجبهة الوطنية ليكون بديلاً طبيعيًا للحزب الوطني الديمقراطي، الذي كان آخر حزب واسع ومنظم، فجاء ليملأ الفراغ الكبير في الحياة السياسية. وهو يثبت أن البديل موجود، وأن العمل الحزبي يمكن أن يكون وطنيًا راقيًا ومحترمًا إذا توافرت الإرادة والتنظيم. وتشير تقارير محلية إلى أن الحزب استطاع منذ لحظة تأسيسه جذب عشرات الآلاف من الأعضاء من مختلف المحافظات، وهو ما يعكس جاذبيته وحضوره الحقيقي في الشارع السياسي.
ومن هنا، فإن الجبهة الوطنية مرشح لأن يكون بحق حزب الدولة الوطنية الجديدة، صوت الأغلبية، وذراعًا سياسية قوية تعبر عن طموحات الشعب وتشارك في حماية مشروع الوطن وبناء جمهوريته الجديدة. ومن وجهة نظري المتواضعة، ومهما اختلفنا أو اتفقنا، فإن حزب الجبهة الوطنية بدأ قوياً، وأتمنى أن تتخذ بعض الأحزاب السياسية من تجربته نموذجًا فتسارع بإعادة هيكلتها وضم قيادات وطنية حقيقية إلى صفوفها، متخلية عن الأنا وحب السلطة.
وإذا كان حزب الجبهة الوطنية يمثل تجربة جديدة واعدة، فإن الساحة المصرية تضم أيضًا عددًا من الأحزاب القوية التي تشارك بفاعلية في الحياة السياسية، ولا يتجاوز عددها عشرة إلى خمسة عشر حزبًا. ويأتي على رأس هذه الأحزاب حزب مستقبل وطن، الذي يُعد الحزب الأكثر تنظيمًا وانتشارًا، وله حضور واسع في البرلمان والشارع معًا. ويليه حزب حماة الوطن الذي يضم بين صفوفه قيادات ذات خلفية عسكرية وأمنية تسهم في دعم استقرار الدولة. كما يبرز حزب الشعب الجمهوري بدوره التشريعي والبرلماني المؤثر، وحزب الحرية المصري الذي يواصل تعزيز مكانته من خلال نشاطاته المجتمعية والتنظيمية. ولا يمكن إغفال حزب الوفد بصفته أقدم الأحزاب المصرية وأكثرها رمزية في الحياة السياسية. وإلى جانب هؤلاء، يأتي حزب الجبهة الوطنية ليضيف بعدًا جديدًا يقوم على تنوع النخب وتكامل الخبرات.
وتشير تقارير محلية صادرة عن مجلس النواب ولجنة شؤون الأحزاب إلى أن هذه الكيانات مجتمعة تمتلك ما يزيد على 80% من المقاعد البرلمانية، وهو ما يمنحها وزنًا سياسيًا حقيقيًا يميزها عن بقية الكيانات الورقية أو العائلية التي تفتقر إلى قاعدة جماهيرية أو تمثيل فعلي.
ولكي يتم إصلاح المشهد الحزبي في مصر، لا بد من اتخاذ خطوات عملية وجادة. في مقدمة هذه الخطوات تأتي إعادة نظر لجنة شؤون الأحزاب السياسية في ملفات الأحزاب، ووقف التعامل مع الكيانات العائلية. ويمكن التحقق من ذلك بسهولة من خلال مراجعة الجمعيات العمومية المقدمة والتدقيق في الأسماء المسجلة.
كما يجب تعديل قانون الأحزاب السياسية بشكل عاجل، بحيث يتضمن مادة ملزمة تمنع وجود أقارب من الدرجة الأولى داخل الهيكل التنظيمي لأي حزب. ويُضاف إلى ذلك إلغاء ترخيص أي حزب سياسي لا يمتلك مقرات فعلية في عشر محافظات على الأقل، وهو شرط ضروري لضمان الامتداد الجغرافي والفعالية الوطنية.
إلى جانب ذلك، يُقترح إنشاء لجنة متخصصة لاختبار قدرات قيادات الأحزاب، للتأكد من أن العمل العام يتصدره أصحاب الكفاءة والخبرة، لا الدخلاء والجهلاء. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن أكثر من ثلثي الأحزاب المرخصة في مصر اليوم تُصنّف ضمن الأحزاب “الورقية” التي لا حضور لها في الشارع، وهي نسبة مرتفعة لا تليق بتاريخ الحياة السياسية المصرية. ومن الجدير بالذكر أن دولًا مثل الهند وتونس أقرّت شروطًا مشابهة، ترتبط بعدد المقرات والتمثيل البرلماني، بهدف تصفية الكيانات غير الفاعلة وحماية جدية العمل الحزبي.
إن مصر، في ظل مشروعها الوطني الطموح لبناء الجمهورية الجديدة، لا تحتمل أحزابًا ورقية أو كيانات عائلية مغلقة. فهي تحتاج اليوم إلى أحزاب وطنية قوية ومؤسسية، تليق بتاريخها العريق وتواكب مستقبلها الواعد. وتشير تقارير إقليمية صادرة عن منظمات العمل البرلماني في الشرق الأوسط إلى أن مصر تُعد من أكثر الدول التي تمتلك أحزابًا مرخصة، لكنها في الوقت ذاته من أقل الدول التي تشهد فاعلية حقيقية لهذه الأحزاب في الشارع. وهذا التناقض لا يمكن تجاوزه إلا بإصلاح جذري يضع الأسس السليمة للحياة السياسية.
ولا شك أن الطريق نحو الإصلاح الحزبي يبدأ بإرادة سياسية وتشريعية واضحة، لكنه لا يكتمل إلا حين يضع السياسيون مصلحة الوطن فوق مصالحهم الشخصية، وحين تتجرد الأحزاب من الأنا ومن حب الزعامة، لتعود صوتًا حقيقيًا للشعب، وذراعًا داعمة للدولة الوطنية، وشريكًا في حماية مشروع مصر المستقبلي وبناء جمهوريتها الجديدة.
حفظ الله الوطن، وتحيا مصر بوحدتها دائمًا وأبدًا، رغم أنف المفسدين والحاقدين والمتربصين.