مقالات

حين هاجر القلب بحثاً عن النسيان وسط وهم المسافة.

حين هاجر القلب بحثاً عن النسيان وسط وهم المسافة.

 

شبكة النايل الإخبارية: بقلم محمد الجامعي

 

عندما حزمت أحلامي في حقيبة الغربة، وودّعت المكان الذي شهد أول نبضة حب في صدري، ظننت أن الأميال ستكون دواءً لجرح لا يندمل. خُيّل إليّ أن البحار والمحيطات التي ستفصل بيني وبين ذكراك ستكون بلسماً لقلب ينزف شوقاً منذ رحيلك.

كانت الطائرة تحلق عالياً في سماء الأمل الزائف، وكنت أحدّق من النافذة إلى الأسفل، أراقب الأرض تصغر شيئاً فشيئاً، ومعها ظننت أن ألمي سيتضاءل. قلت لنفسي: “ها أنذا أهرب من سجن الذكريات، سأبني حياة جديدة حيث لا يعرف أحد قصة حبي المكسورة.”

اكتشاف الحقيقة المرة

لكن يا لسذاجة القلب العاشق! فما إن وطئت قدماي أرضاً غريبة، حتى اكتشفت أن المسافة لا تقاس بالكيلومترات، بل بنبضات القلب. وجدتك أقرب إليّ من نفسي التي بين جنبي، أقرب من الدم الذي يجري في عروقي، أقرب من الهواء الذي أتنفسه.

في غرفتي الصغيرة بالمدينة الجديدة، عندما يسكن الليل ويخلد العالم للنوم، كنت أسمع صوتك يتردد بين الجدران الغريبة. كان اسمك يرقص على شفتي دون أن أدري، وكانت عيناك تطالعانني من كل مرآة ألقي فيها نظرة على وجهي المتعب لتزيدني غربة في غربة

أصبحت غريباً مرتين: غريب في وطن جديد لا يعرف لساني ولا تاريخي، وغريب في قلبي الذي لم يعد يطاوعني في محاولة النسيان. كل شارع أسير فيه كان يحمل ظلك، وكل قهوة أشربها كان طعمها يذكرني بطعمك الحلو.

في البداية، حاولت أن أملأ أيامي بالعمل والانشغال، ظناً أن الإرهاق سيقتل الذكرى. لكن التعب لم يكن يطال سوى جسدي، أما القلب فكان يزداد يقظة وحيوية كلما اشتد به الشوق إليك.

 

كتبت لك ألف رسالة لم أرسلها، ونطقت باسمك ألف مرة في صلواتي الصامتة. كانت كل مدينة أزورها تسألني عنك، وكل غروب أشهده يحكي لي قصتنا من جديد.

حاولت أن أحب أخريات، لكن قلبي كان يرفض كل دخيل عليه. كان مثل بيت أغلق بابه منذ خروج ساكنته الأولى، ورفض أن يفتحه لأحد غيرها.

 

وهكذا، استسلمت للحقيقة في غربتي الطويلة، تعلمت أن الحب الحقيقي لا تحده جغرافيا، ولا تقيده حدود. تعلمت أن الإنسان قد يهاجر بجسده إلى أقاصي الدنيا، لكن قلبه يبقى حبيس المكان الأول الذي تعلم فيه معنى الحب.

أدركت أن محاولة نسيانك كانت مثل محاولة إنكار جزء من هويتي، جزء من الذي أصبحته بسببك وبفضلك. فأنت لست مجرد ذكرى عابرة في تاريخي، بل أنت جزء من تكويني، من الطريقة التي أرى بها العالم، من الطريقة التي أحب بها الحياة رغم قسوتها.

 

اليوم، وبعد سنوات من الهجرة، توقفت عن محاولة الهرب منك. تصالحت مع حقيقة أنك ستبقين معي أينما حللت وارتحلت. صرت أحمل حبك كما يحمل المسافر أعز أمتعته، بحذر ورعاية، دون أن يتنازل عنها مهما طال السفر.

فلتبقي إذن في قلبي أيتها البعيدة القريبة، أيتها الغائبة الحاضرة، أيتها التي علمتني أن أقوى السجون هو السجن الذي نبنيه بأيدينا في قلوبنا، وأجمل السجون هو ذلك الذي نبنيه باسم الحب.

ناديني بالمهاجر العاشق

لم تعد الهجرة هرباً من الألم، بل صارت رحلة لاكتشاف أن الحب الحقيقي يسافر معنا حيثما ذهبنا. وأنت، أيتها المحبوبة، لست مجرد ذكرى تركتها خلفي، بل رفيقة سفر خفية تشاركني كل غروب في الغربة، وتؤنسني في ليالي الوحشة الطويلة.

هكذا تعلمت أن القلب وطن لا يعرف الحدود، وأن الحب لغة عالمية تُفهم في كل مكان، حتى لو لم ينطق بها أحد سوى أنت وأنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى