سيمفونية الغياب والحضور

سيمفونية الغياب والحضور
شبكة النايل الإخبارية: محمد الجامعي
ما زلتُ أبحث عن عشقي منذ أن ضاع مني وقد ضيّعني. ضاع وتركني أذوب كالشمع أمام نار الشوق، أتفتّت كورقة خريف عتيقة، أنتهي دون أن أموت. فالعاشق مثلي لا يموت، بل يتحوّل إلى حالة أخرى من الوجود، حالة معلّقة بين الحياة والأبدية، كنغمة موسيقية تتردّد في الفراغ دون أن تجد مقامها الأخير.
حينما رحلتِ، رحلت معكِ كل الأشياء الجميلة في صمت رهيب، كأنّ وطني ضاع مني وأنا نائم. ومنذ ذلك الحين وأنا أبحث عنكِ في نَفَسي، في وجوه المارّة، وعن وجهكِ في وجوه الغرباء. أمشي في شوارع نيويورك وبين ناطحات السحاب الشاهقة، وفي كل حدائق ولاية فلوريدا، أفتّش عن ملامح تشبه ملامحكِ، لكنّ كل الوجوه تبدو شاحبة كأقنعة مهجورة. رائحة الهواء مُغبّرة، والعالم من حولي فقد لونه الحقيقي.
الحركة الثانية: الثقب الأسود
غيابكِ ثقب أسود ابتلع كل ألوان الكون، سرق مني كل البهجة التي كنت أراها منعكسة في عينيكِ. لقد أصبح غربتي الأبدية، ومنفاي الاختياري. حتى الحروف التي أكتبها عنكِ فقدت براءتها وأصبحت متّهمة وهي بريئة براءة الذئب من دم يوسف.
فهل تحتاج كلماتي إلى محامٍ يدافع عن براءتها؟ رغم أنّني أنطقها وأكتبها بصدق الطفولة، وكلماتي شاهدة على عشقي الذي لا يكذب ولا يدّعي، كنهر يجري نحو البحر دون أن يسأل عن المصير.
معكِ عشقت اللغة والأنوثة، وبكِ اكتشفت العربية من جديد، كأنّني أقرأ أبجديتها للمرة الأولى. تعلّمت التحايل على هيبتها، واستسلمت لإغرائها السرّي، لتعاريجها الساحرة، لإيحاءاتها الخفية. فبدأت أنحاز للحروف التي تشبهكِ: تاء الأنوثة الرقيقة، حاء الحرقة المشتعلة، هاء النشوة المتأججة، ألف الكبرياء المنتصبة، والنقاط المبعثرة على جسد الحروف كخالات سمراء تزيّن البياض.
حتى بدأت أظنّ أن اللغة العربية أنثى، كامرأة ننحاز إليها دون غيرها. علّمتني البكاء والضحك والحبّ على طريقتها الخاصة. وعندما هجرتني، شعرت باليتم والبرد يتسلّلان إلى روحي كضباب كثيف يلفّ القلب.
إنّ حزني الوحيد هو أنّني عندما أنهي ما أكتبه، أكتشف أنه مجرّد بداية صغيرة لما أريد قوله. هذا هو عذاب العاشق والكاتب معاً، أن تكون الكلمات أقلّ من المشاعر، والحروف أضيق من الأحلام.
أنتِ العشق الساكن في القلب الذي لا يحتاج إلى حضور لكي يسكنني. يكفي أنكِ في القلب، أسمعكِ حين يصمت الجميع. أراكِ دائماً أقرب من أي شخص آخر، كأنكِ تجلسين هنا إلى جواري.
تتراقص أمام عينيّ صورتكِ الجميلة، فأصمت كي أسمع أنفاسكِ تهمس في أذني، فيصعب عليّ رمشة عينيّ، أخاف لئلا يغيب دلالكِ عنّي ولو قليلاً. فأطلب منكِ أن تبقي معي على هذه المسافة المليئة بالعشق والحرية، كنجمة بعيدة تضيء الليل دون أن تحرق من يحبّها.
بعيدة عنّي أو قريبة منّي، غائبة أو حاضرة، يكفيني أنّني وجدت فيكِ… في غيابكِ الأمان الذي لا يخذل، حتى وأنتِ لست موجودة بجانبي. الاكتفاء بهذا الشعور لا يرهقني ولا يتطلّب حضوراً أو وعوداً. هو شعور يشبه الطمأنينة، كأنّ قلبي وجد ما يشبهه وقرّر ألا يبحث بعده.
فأنتِ السيمفونية التي تعزف في صمت الروح، اللحن الذي لا ينتهي حتى لو انتهت الموسيقى. وأنا المستمع الوحيد في قاعة القلب الكبيرة، أصفّق لغيابكِ كما لو كان أجمل حضور.