مقالات

صرخة القلب الأبية

صرخة القلب الأبية

 

شبكة النايل الإخبارية: محمد الجامعي

 

اخترت أن أستمر في الكتابة عن هذا العشق الرهيب

في صمت الليالي الطويلة، حين تهدأ الأصوات وتخفت الأضواء، أجد نفسي أمام مرآة الذاكرة، أحدق في وجه الحقيقة العارية. اخترت أن أستمر في الكتابة عن هذا العشق الرهيب، أن أصرخ بكل ما في صدري من شجن وألم، لأنني أدركت أن الصمت قد يقتلني قبل أن يقتل الحنين.

كيف لي أن أعيش مع نفسي وأنا أحمل في قلبي كل هذا الحب المكبوت؟ كيف لي أن أواصل الحياة وكأن شيئاً لم يكن، وكأن تلك الأيام التي عشتها في ظلالها لم تكن إلا سراباً؟

انه نبض لا يعرف الصمت

لقد شعرت، وما زلت أشعر، ولن أتوقف عن الشعور أبداً. هكذا هو القلب الذي تذوق طعم العشق الحقيقي – لا يعرف النسيان، لا يتعلم الخيانة، لا يجيد فن التظاهر بالبرود.

كيف للقلب الذي عايش كل هذا أن يتوقف؟ كيف للمشاعر التي نبتت بداخلي كأشجار الزيتون المعمرة أن تموت وهي متشبثة بجذوري، ممتدة في عمق كياني كالأنهار الجوفية التي تروي الأرض في سكون؟

شعرت بكل لون من ألوان الطيف الإنساني. بالفرح الذي يرقص في العروق حين كنت قريباً منها، وبالحزن الذي يستوطن الأضلاع حين غابت عن ناظري. بالألم الذي يقطع الأنفاس حين أدركت أنها لم تعد لي، وبالفخر الذي يملأ الصدر وأنا أراها تكبر وتزدهر. وأخيراً، بالخذلان المر وأنا أرى أيدي الغريب تحتضن ما كان يوماً ملاذي الوحيد في هذا العالم.

ذاكرة محفورة في الصخر

ما زلت أشعر شعوراً لا يعرف الزمان، لا يخضع لسلطان الساعات، لا يتوقف عند حدود اللحظة العابرة ولا يذوب مع تقلبات الفصول. أشعر وكأن كل لحظة عشتها بجانبها تعود إليّ في كل صباح، تتراقص أمام عيني كأشباح جميلة، كشريط سينمائي لا ينتهي، محفور في ذاكرتي بحروف من نور ونار.

لن أتوقف عن الشعور، لأن القلب الذي عشق بصدق لا يعرف الخيانة، حتى وإن خانه العالم كله وتآمرت عليه الظروف. سأظل أعيش على أطيافها العذبة، على ذكرى ابتسامتها التي كانت تضيء ظلمة أيامي، على إحساس كان يوماً ملجأي الآمن من صخب الحياة وعواصفها.

 

قد يكون هذا الشعور عذاب العاشقين ، عذاباً أبدياً، نيراناً تأكل القلب في صمت، لكنه أيضاً أعز ما أملك – إنه الدليل الحي على أنني عشت بصدق في هذه الحياة. أنني عشقت بكل ما في كياني من طاقة ووجد، وأنني لم أكن يوماً من أولئك الذين يعبرون الحياة كالأشباح، بلا أثر، بلا معنى، بلا ذكرى.

سأظل اكتب و اصرخ حتى يوم يبعثون، لأنني في أعماق أعماقي أؤمن إيماناً راسخاً أن العشق الحقيقي لا يموت أبداً، إنه لا يذبل ولا يفنى، بل يتحول إلى جزء من روحنا، يندمج مع دمائنا، يصبح جزءاً من هويتنا، يعيش معنا إلى الأبد.

لم يحالفني الحظ يوماً، لم تبتسم لي الأقدار، لم تكن الريح في صالحي أبداً، ولكنني مضيت في مواصلة أحلامي رغم انهيارها، رغم تحطمها أمام عيني كأكواب الزجاج. أسقطوني مرات ومرات، حاولوا كسر عزيمتي، سعوا لدفني تحت ركام اليأس، وكنت بعد كل سقوط أنهض من جديد، أشد نفسي بنفسي وكأنني أتحدى الحياة والظروف واليأس معاً.

 

تجاهلت تلك الأحداث والنكسات القاسية، لم أدعها تحطمني أو تقتل الأمل في قلبي. خبأتها في قلبي مع الأشياء العتيقة الثمينة، انها كنوز الذاكرة المكنونة ، تلك الذكريات التي حفرت لها نفقاً سرياً في زاوية نائية من ذاكرتي، مكان آمن بعيد عن عبث الزمن وقسوة الناس.

وها أنا عدت من بعيد، عدت بعد غياب طويل، لكن لم ينظر أحد في عيني ليقرأ تاريخ المعارك التي خضتها، لم يحاول أحد أن يفهم كم حرباً صامتة دارت في داخلي. لم يستمع أحد لصمتي المليء بالكلمات غير المنطوقة، لم يترجم أحد لغة الألم المكتوب على ملامحي.

لقد دشنت عهد الكتابة الأبدية

و ساظل أكتب، سأواصل البوح والاعتراف، سأستمر في سكب روحي على الورق حتى لو نفد حبر محبرتي، فسأملؤه بدمي، وحتى لو تقطعت أناملي، فسأكتب بما تبقى من جروحي.

سأكتب للذين عشقوا ولم يُعشقوا، للذين صدقوا فكُذبوا، للذين أعطوا فأُخذ منهم، للذين بحثوا عن الحب في عالم نسي معنى الحب. سأكتب لأن الكتابة هي آخر ما يتبقى لنا حين يأخذ العالم منا كل شيء، حين لا يبقى في جعبتنا سوى الكلمات والذكريات.

إن الحب الحقيقي، كالشعر الخالد، لا يموت مع صاحبه، بل يبقى خالداً في السطور، محفوظاً في القلوب، منقوشاً في ذاكرة الزمن إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى