سراب الأبدية: عشق لا يزول

سراب الأبدية: عشق لا يزول
شبكة النايل الإخبارية: محمد الجامعي
في محراب الهوى وقفتُ، تتقاطر من قلبي الكلمات كقطرات المطر على أرضٍ عطشى. عشقٌ يسري في شراييني كالنبض، لا يعرف للنهاية طريقاً ولا للفناء سبيلاً. هو ذلك التناقض العذب: جنونٌ عاقلٌ يهمس بالحكمة، وموجٌ هادئٌ يخفي عاصفة، ونارٌ باردةٌ تحرق بلذة ولا تُؤلم.
يتدفق اشتياقي إليها كنهرٍ جارٍ، قويٌ في اندفاعه، صامدٌ أمام صخور اليأس وعواصف الزمن. يتسامى فوق العتاب، ويذوب شمعَ الشك والخوف، ويتجلى بجمالٍ فائقٍ يتخطى كل عشاق الدنيا، كأنه نجمٌ يحتكر ضوء المجرة.
اكتشفتُ هذا العشق كما يكتشف المسافر أرضاً مجهولة، دون أن أتكلف تسميته أو تصنيفه. كنتُ كوالدٍ ينظر إلى وليدهِ الأول، لا يشغله الاسم بقدر ما يسكره الشعور بوجود هذا المخلوق الجديد بين يديه. عشقٌ يستعصي على سهام الإهمال والتهميش، ولا يركع أمام سلطان الغياب مهما امتد واستطال. إنه لغزٌ محيّرٌ للغرباء، شفرةٌ لا يفك طلاسمها إلا من ذاق حلاوتها.
عشقتها عشقاً يمتد كأفق لا نهائي، عشقاً لا يحمل في طياته تاريخ انقضاء، بل يتجدد كشجرة سرمدية تنبت أوراقها كلما سقطت أخرى، متحدياً قوانين الفناء والزوال.
في براءة طفولتي، كنتُ أظن الحياة بسيطة كخط مستقيم، وأن الوفاء صفة متأصلة في كل من حولي، وأن البيت المرسوم بألوان زاهية على دفتري سهل المنال، وأن القلب المخترق بسهم أحمر هو الحب بكل بساطة. اعتقدتُ أن أقصى الآلام هي وخزة إبرة طبيب، وأن أقسى خسارة هي سقوط سن من أسناني، وأن قصص العشق جميعها تتوج بفرح وزفاف، وأن الحزن في نهايات العشق خرافة من اختراع الخيال.
لكن حين نضجت وارتطمت روحي بصخرة الواقع، أدركتُ أن الخيانة العظمى ليست في سرقة لعبة، بل في سرقة أحلام القلب وتحطيم مرايا الروح.
إن المأساة الكبرى ليست في فقدان المعشوق، بل في أن تمضي بقية عمرك تبحث عنه في كل وجه وصوت ومشهد، حاملاً جرحاً عميقاً يأبى الشفاء، متحدثاً مع الناس بابتسامة مزيفة بينما تعصف بداخلك حربٌ ضروس لا هدنة فيها.
قد تحتمل مشقة هذا البحث الأبدي عن عشقك المفقود، متسلحاً بالأمل وإن ضعف. لكنك تستسلم وتنهار حين ترى من أهديتها نبض قلبك وسنوات عمرك بين يدي غريب يمنحها ما عجزت أنت عن منحه.
ليس أقسى على الروح من أن تعيش بلا عشق، لكن الأشد قسوة وإيلاماً أن تذوق حلاوة العشق ثم تُحرم منه، كمن ذاق الماء ثم قُذف به في صحراء قاحلة، يتذكر العذوبة فتزداد معاناته.