ثقافة

الإناء ينضح بالمكان، لا بما فيه فقط

الإناء ينضح بالمكان، لا بما فيه فقط

بقلم الناقد السينمائي شربل الغاوي

ليست الحكاية عن حبّات بزرٍ أو فستقٍ متناثرة في إناء، بل عن المسافة الفاصلة بين مكانٍ يُقَدَّم فيه مجانًا، وآخر يُحسَب فيه بثمنٍ باهظ. الإنـاء نفسه، عدد الحبات كما هو، الشكل لم يتغيّر، والطعم لم يتبدّل، لكن العيون التي تنظر إليه، والسياق الذي يُقدَّم فيه، هما ما يُغيّران كلّ شيء.

في مكانٍ ما، يُقدَّم هذا الإناء فوق طاولة من رخام، على صينية لامعة، وتحت ضوءٍ خافت مصقول، تُضاف حباته إلى الفاتورة، ويُقرَأ اسمه في قائمة الأسعار. أما في زاوية أخرى من هذه الحياة، قد يكون الإناء نفسه موضوعًا على خشبٍ مهترئ، في مكانٍ شعبي بسيط، تُقدَّم حباته دون مقابل، بوجهٍ بشوش وكرمٍ صامت لا يُدوَّن على ورق.

المشكلة ليست في البزورات، بل في الخلفيّة التي تُوضع فيها. ليست في المذاق، بل في النوايا. وليست في الإنـاء، بل في الذين يملكون القدرة على جعله مجرّد سلعة، أو رسالة كرم.

إنها خدعة الشكل، حين يُخادعك اللمعان، فتظن أن القيمة في الوعاء، لا في ما يحتويه. بينما الحقيقة الخالدة تقول: “الإناء ينضح بما فيه”، لا بما حوله. فإن كان في داخله صدقٌ وكرم، نضح به، ولو كان من طين. وإن كان فارغًا من كل معنى، فلن تملأه لا الفضة ولا البلّور.

هكذا الحياة، تُبدّل الأماكن، فتظنّ أنك في مقامٍ عالٍ لمجرّد أن المفرش ناعم والكوب بلّوري، فتكتشف بعد حين أنك غريب، لا لأنك غريب عن الناس، بل لأنك غريب عن نفسك.

لا تجلس حيث لا يُشبهك المكان، ولا تُغريك الأضواء التي تُبهِر ولا تُنير. فأن تكون في غير مقامك، هو اغترابٌ يُكلّفك روحك، وثمنًا لما كنتَ تناله مجانًا من دفء وانتماء وصدق.

واعلم، أنّ المجد ليس في الإنـاء، بل في ما نضح منه. فالبذرة الطيبة لا تغيّر جوهرها إن وُضعت في قصر أو على رصيف. أمّا من لا يملك مضمونًا، فلن يغنيه المكان، ولن يرفعه السياق.

فكُن حيث يُشبِهك الجلوس، ولا تساوم على مكانك الحقيقي، لأنك حين تبيع ما يُمنح بلا ثمن، ستكتشف متأخرًا أنك دفعت كثيرًا لتجلس على طاولة لا مكان لك عليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى