مقالات

مدافن القلادة في خيبر: اكتشافات إشعاعية تغيّر خريطة الموت والعبور في الجزيرة العربية

مدافن القلادة في خيبر: اكتشافات إشعاعية تغيّر خريطة الموت والعبور في الجزيرة العربية

بقلم: الشريف محمد بن علي الحسني

لم تكن الصحراء يوماً مجرد فراغ جغرافي، بل مسرحًا حيًا لعبور البشر، ودفن موتاهم، ونسج معتقداتهم. وفي شمال غرب الجزيرة العربية، حيث تتقاطع الطرق الصحراوية بالمقابر الحجرية، تقف مدافن القلادة أو ما يعرف بـ”السبل الجنائزية” شاهدة على حضارات اندثرت، لكنها ما زالت تهمس بأسرارها عبر الحجارة والصور الجوية.

مدافن القلادة أو Tail-Tower Cairns هي هياكل حجرية مميزة، تشبه القلادة في امتدادها، وتتألف من غرفة دفن صغيرة تُلحق بها “ذيل” طويل، غالبًا ما يكون موجهاً نحو طريق أو مسار. تنتشر هذه المدافن في خيبر وما حولها، وتتميز بكونها تشير إلى وجود سلوك جنائزي رمزي ومخطط.

أظهرت تحليلات الكربون المشع أن هذه الهياكل تعود إلى منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد، أي إلى العصر البرونزي المبكر. وهذا يعني أنها أقدم مما كان يُعتقد، وأن خيبر والمنطقة المحيطة لم تكن هامشًا صحراويًا، بل جزءًا فاعلاً من نظام جنائزي متكامل في شبه الجزيرة.

ما يلفت في هذه الهياكل هو ارتباطها بـ”مسارات” طويلة، يمكن تتبعها عبر الأقمار الصناعية، تمتد لمئات الكيلومترات بين الواحات ومصادر المياه، محاطة بمدافن على جانبيها. هذا الترتيب يشير إلى تصور الموت كرحلة مستمرة، و”المقابر كعلامات طريق”، ترسم درب العابرين.

العدد الهائل من هذه المدافن، وانتظامها المكاني والزمني، يشير إلى وجود منظومة اجتماعية-ثقافية معقدة. ليس من المستبعد أن تكون هناك جماعات أو كيانات سياسية أو روحية نظّمت هذا الشكل الجنائزي، وقد تكون خيبر نفسها مركزًا حضاريًا أقدم مما نتصور.

مدافن القلادة ليست مجرد حجارة. إنها نصوص منسية نُقشت على الرمال، تشهد أن شمال غرب الجزيرة لم يكن هامشًا بل مفترق طرق حضاري وجنائزي وروحي. ومع كل صورة جوية، وكل تحليل إشعاعي، نقترب أكثر من فك رموز هوية الجزيرة العميقة، التي كانت وما زالت مسرحًا للعبور والبقاء.

رئيس الرابطة العلمية العالمية للأنساب الهاشمية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى