العنوان:أطفال الحروب الجدد: بين الحصار و الدمار — رؤية واقعية و مستقبلية

العنوان:أطفال الحروب الجدد: بين الحصار و الدمار — رؤية واقعية و مستقبلية.
المؤلف: |مجيدة محمدي ـ شاعرة و باحثة تونسية
التاريخ: [10/092025]
الملخص :
يهدف هذا البحث إلى استكشاف تجربة “أطفال الحروب الجدد”، وهم الأطفال الذين ولِدوا أو نشأوا أثناء الحصار وانقطاع الخدمات. يتناول البحث الرؤية النفسية والاجتماعية لهؤلاء الأطفال، التحديات التي تواجههم، والتدخلات الممكنة. يعتمد البحث على مراجعة أدبية تحليلية للتقارير والمنشورات الموثوقة باللغة العربية، ويُقدّم آفاقاً استراتيجية للتعامل مع الظاهرة بطريقة متعددة الأبعاد.
الكلمات المفتاحية
أطفال الحروب، الصدمات النفسية، التعليم في الطوارئ، حيادية الحماية، تسرب الأطفال العرب، النزاعات، السياسات التنموية
المقدمة
تُمهّد الورقة لمفهوم “أطفال الحروب الجدد”، وتبيّن أهمية دراستهم من منظور تطوّري نفسي واجتماعي وسياقي. تُظهر الورقة حاجة المجتمع الأكاديمي والإغاثي إلى فهم أعمق لهؤلاء الأطفال الذين تطرح ولادتهم في ظروف عنف وصراع تساؤلات حول رؤيتهم للعالم ومستقبلهم.
تعريف المفهوم وسياقه
مصطلح “أطفال الحروب الجدد” لا يقتصر على الأطفال المشاركين في النزاعات أو المجندين فحسب، بل يشمل أوسع فئةٍ من الأطفال الذين تشرّدَت حياتهم بفعل: الحصار، التشريد، التمزّق الأسري، تعرضهم للأذى المباشر أو المعاناة المزمنة الناتجة عن انقطاع الخدمات الأساسية. هم أبناء حالاتٍ لا تقتصر على ساحة قتالٍ واضحة، بل تشملَ الأحياء المحاصرة، المخيّمات، ومناطق الصراع غير النظامي.
على المستوى النظري، يمكن وضع هذا المفهوم ضمن ثلاثة محاور مترابطة:
البُعد النفسي: صدمات مابعد الصدمة ، اضطرابات القلق والاكتئاب، إعاقة التطوّر المعرفي والانفعالي.
البُعد الاجتماعي: تحوّل الشبكات الاجتماعية، تفتّت الأسرة الممتدة، تراجع الرقابة الاجتماعية التقليدية، وارتفاع احتمالات الاستغلال و الجريمة.
البُعد البنيوي والسياسي: الحروب و الاستعنار والحصار والتمييز في الوصول إلى الموارد، فشل الدولة/السلطة في حماية الطفل، استخدام الأطفال كسلاحٍ أو ورقةٍ سياسية.
كيف يرون الحياة والعالم؟ تشكيل الوعي تحت الحصار
رؤية الطفل للعالم تتشكّل من ذاكرةٍ حسّيةٍ مبكرة: صوت القصف، رائحة الدخان، لون السماء في ليلٍ مضيءٍ بالانفجارات. لكن الرؤية ليست صورةً مجزأة فحسب؛ هي نسيج من معانٍ يدمج الواقع والرمز، وتغذّيه سرديات الناجين والأهل ووسائط البقاء اليومي.
أولا: الزمن والاحتساب
أطفال الحروب يعيشون زمنًا مشوّهًا: لا تواتُرٌ طبيعي للأيام، ولا وضوحٌ للمستقبل. يتعلّمون احتسابَ اللحظات: هل ستنقضي ساعةٌ أخرى؟ هل سيبقى الماء؟ الزمن عندهم يصبح أداةً للبقاء، لا لالتقاط الأحلام.
ثانيا : الثقة والمراسلات الاجتماعية
الثقة، تلك العملة الرقيقة في العالم الآمن، تُستبدل بحذرٍ دائم. الطفل المحاصر يعلّم نفسه أن يعتمد على شبكاته الضيقة: الأم، الأخ، الجار القريب. أما الغريب فغالبًا ما يُفهم كخطر أو موردٍ محتمل للاستغلال. تتغيّر مفردات العلاقة: الحنان يصبح استراتيجية بقاء، والابتسامة قد تُقاس بأنها فَرْجٌ مؤقّت أو قناعٌ للحزن.
ثالثا : معنى العدالة والرمزية السياسية
نشأ جيل يرى العنفَ منظومةً إداريةً او يومية أكثر منها استثنائية. العدالة عنده لا تُمثّلها مؤسسات القانون، بل قد تُمثّلها قصصُ الأهل والرويات الشعبية عن الشجاعة والصبر. في بعض الحالات، يتحوّل الشعور بالظلم إلى مشروع هوية: مقاومةٌ رمزية، قصائد، رسوم على الجدران، ألعاب تُعيد تمثيل المشهد السياسي والاجتماعي او انحراف سلوكي اخلاقي ينقلب على كل هذه الممارسات…
رابعا : اللعب والتعلّم كزمنٍ بديل
اللعب يتبدّل. بدلًا من ألعابٍ تعليميةٍ تجريبية، يكون اللعب إعادةً لترتيب المشهد المرعب: دُمى تُعالج جراحًا وهمية، ألعابُ حربٍ تعيد تشكيل السيطرة. التعليم، في ظل الانقطاع، يصبح مقاومةً بحدّ ذاته: فصولٌ بديلة، دروسٌ على الأرض، أو تعلّمٌ من خلال الراديو والقصص المتداولة.
التحديات الرئيسة
أ. التحديات النفسية والتطورية
الصدمة المتكررة: التعرض المستمر للعنف يخلق شللاً تطوريًا؛ مشاكل الانتباه، ضعف الذاكرة العاملة، صعوبات في تنفيذ الوظائف التنفيذية.
اضطرابات السلوك: عدوانية أو انسحاب مفرط، صعوبات في ضبط الانفعالات، نزوع للمخاطرة أو لانسلاخ الهوية.
ضعف الرعاية الأولية: الأم التي تعاني هي نفسها نفسيًا لا تستطيع تقديم رعايةٍ مستقرة، مما يؤثر في تأسيس روابط الأمان الآمنة لدى الطفل.
ب. التحديات الصحية والتغذوية
سوء التغذية الحاد والمزمن يؤثران على نمو الدماغ والجسم، مع آثار تستمر طوال العمر (تراجع التحصيل الدراسي، ضعف المناعة).
نقص الخدمات الصحية يؤدي إلى زيادة الأمراض المُعدية، وفي بعض الحالات ولاداتٌ دون رعاية طبية، مما يزيد معدلات الإعاقة.
ج. التحديات التربوية والتعليمية
انقطاع مستمر للتعليم النظامي — فقدان سنوات دراسية يؤثر على فرص الترقّي الاجتماعي.
افتقار مناهج تراعي الصدمات — التعليم التقليدي لا يواكب حاجات الأطفال المتضررين نفسيًا أو معرفيًا.
د. التحديات الاجتماعية والاقتصادية
زواج القُصّر والاستغلال الاقتصادي كاستراتيجيات بقاء.
انحلال شبكات الحماية المجتمعية؛ تراجع دور المنظمات المحلية، أو سيطرة فاعلين مسلّحين على الموارد.
الآثار طويلة الأمد على المجتمع والدولة
أطفال اليوم هم مواطنو الغد. عندما يتخرج جيلٌ كامل من دروب الحصار متحمّلاً صدماتٍ نفسية ومهاراتٍ تعليمية ناقصة، تنتج آثارٌ بنيوية:
تراجع رأس المال البشري: انخفاض مستوى المهارات والقدرة الإنتاجية.
استمرار دوائر العنف: الأطفال الذين عاشوا العنف قد يُظهرون قابلية أكبر للعنف لاحقًا، أو الانخراط في صراعاتٍ جديدة.
هشاشة المجتمع المدني: تقلّ الكفاءات القيادية المدنية، ويزداد الاستقطاب والقطيعة.
تدخلات مُثلى — مبادئ واستراتيجيات
التدخل لا يكفي أن يعالج الإنقاذ الفوري؛ يجب أن يكون شاملاً ومستدامًا، متضمّنًا ثلاثة أبعاد مترابطة: الحماية، التعافي، والاستثمار في المستقبل.
أولا : الحماية الفورية
تأمين ممرّات إنسانية، نقاط تجمع آمنة للأطفال، خدمات رعاية الطوارئ النفسية والتغذية.
حماية قانونية للأطفال من الاستغلال والتجنيد والزواج القسري.
ثانيا : الرعاية النفسية-الاجتماعية المبرمجة
برامج قائمة على الأدلة تدمج العلاج المعرفي-السلوكي المخصّص للأطفال، مع أنشطة تعلّم اجتماعي انفعالي.
تدريب الأسر والمعلّمين على التعرف إلى علامات الصدمة والتعامل معها.
إنشاء بيئات تعليمية صديقة للطفل تراعي الفوارق النمائية وتحمّل الصدمات.
ثالثا: التعليم المستمر والمهارات
برامج تعليم بديلة تستعيد السنوات الضائعة وتقدم تعليماً تقنياً ومهاراتٍ للعيش.
مناهج مرنة تتضمن تعليمًا عن السلام، إدارة النزاعات، والحقوق الأساسية.
رابعا: دعم الأسرة والاقتصاد المحلي
منح نقدية مشروطة لدعم الأسر، مع برامج لتقوية سبل العيش.
مشاريع توظيف للشباب، وبرامج تدريب مهني تمكّن الفتيات والفتيان من بدائل عن زواج القُصّر أو الالتحاق بالمجموعات المسلحة.
سادسا: العدالة الانتقالية والتعافي المجتمعي
آليات للعدالة تُعيد الاعتبار للضحايا، وبرامج مصالحة مجتمعية تُساعد على إعادة بناء الثقة.
توثيق الانتهاكات كوسيلة لردع الاستغلال في المستقبل.
نماذج نجاح وتجارب قابلة للتعلّم (مفاهيميًا)
تجارب المنظمات الإنسانية تُظهر أن الدمج بين التدخل النفسي الطارئ وبرامج التعليم والتدريب المهني يعطي نتائج أفضل. كذلك، برامج الدعم الاقتصادي المباشر للأسر تُقلّل من معدلات استغلال الأطفال. المهم أن تكون المبادرات مُنسقة محليًا، وتعتمد على الجهات الفاعلة المحلية لدوام الأثر.
مقاربة نقدية: لماذا تفشل كثيرٌ من السياسات؟
التركيز المفرط على الطوارئ، دون خطة لإعادة البناء الطويلة الأجل.
العزل السياسي للمجتمعات المتأثرة، مما يحدّ من تمويل العناية المستدامة.
خطاب إنساني يهمّش صانعي القرار المحليين، ويخلق تبعيةً في آليات التعافي.
غياب مقاييس دقيقة للنتائج: برامجٌ كثيرة تُقاس بما تم إنفاقه لا بما تغير فعلاً في حياة الطفل.
الآفاق: نحو رؤيةٍ شمولية وانتقالية
إذا أردنا أن نؤسس لآفاقٍ عادلة لأطفال الحروب الجدد، فالمطلوب:
تحويل الرعاية من مشروع مؤقت إلى مسار تنموي: دمج برامج الرعاية والتعليم في سياسات وطنية ما بعد الصراع.
تمكين المجتمع المحلي: دعم منظمات المجتمع المدني، وتعزيز الملكية المجتمعية للمشاريع.
الاستثمار في رأس المال البشري: برامج طويلة الأمد للصحة النفسية، والتعليم المستمر، والتأهيل المهني.
العدالة والذاكرة: عمليات لتوثيق الانتهاكات وتقديم تعويضاتٍ مدروسة تضمن إعادة الدمج.
مناهج تعليمية متكيّفة مع الصدمات: مناهج متاحة بجودة عالية ترتكز على تطوير المرونة النفسية ومهارات التفكير النقدي.
خاتمة: رسالةٌ إلى المستقبل
أطفال الحروب الجدد ليسوا مجرد حزنٍ يُقاس بإحصاءات؛ هم كلماتٌ لم تُكتب بعد في سيرة الأمة، وهُم مِفاتيحُ الغد إذا ما استرجعنا إنسانيتهم. لا يكفي أن نُخرِجهم من الدمار؛ علينا أن نُعلِّمهم أن يحلموا، ونزودهم بتمكينٍ يجعل من حلمهم واقعًا لا يهابون فيه غدًا. المستقبل سياسةٌ وصناعة — فليكن صنعه رحمةً وبصيرةً وعدالة.
مراجع
اليونيسف — UNICEF (مكاتب المنطقة العربية): تقارير عن أثر النزاعات على الأطفال، الحماية، والتدخلات التربوية والطبّية. (متاحة بالعربية عبر موقع اليونيسف الإقليمي).
منظمة إنقاذ الطفولة — Save the Children (المنطقة العربية): تقارير ميدانية وبرامج دعم الطفل في حالات الطوارئ.
هيومن رايتس ووتش — تقرير بالعربية: تقارير توثق الانتهاكات ضد الأطفال في مناطق النزاع.
اللجنة الدولية للصليب الأحمر / الهلال الأحمر: مواد إرشادية وتقارير إنسانية بالعربية حول الحماية الصحية والإنسانية في النزاعات.
منشورات وبرامج وزارة الصحة ووزارة التربية (في البلدان المتأثرة) — تقارير وطنية عن التأثيرات الصحية والتعليمة.
مراكز أبحاث وتراجم عربية: مؤسسات عربية مُعنية بالعلوم الاجتماعية والإنسانية تصدر دراسات حول أثر الحرب على الطفولة (تحديدًا مراكز دراسات النزاع والطفل في الجامعات العربية).
أدلة ومراجع تربوية ونفسية مترجمة: العديد من الأدلة العملية في الصحة النفسية الاجتماعية للأطفال (PSS) متوفرة بالعربية عبر مواقع المنظمات الإنسانية.